صمت الغرب عن غزة- داروينية سياسية ونسبية أخلاقية؟

بعد انقضاء ما يربو على العام ونصف، من الصمت المطبق واللامبالاة المهيمنة على الغرب تجاه الفظائع الإسرائيلية المرتكبة وتجويع الأطفال في غزة، أفاق فجأة ما يسمى بـ "الضمير" لدى صحيفة فايننشال تايمز، وهي الجريدة المالية البريطانية المرموقة، لتخرج عن صمتها المطبق في أوائل شهر مايو/أيار الماضي، وتدين بعبارات صارخة، تواطؤ الغرب المخزي، وتدنّي قيمه الأخلاقية، في مواجهة العدوان الإسرائيلي الوحشي والهمجي المتواصل على القطاع المحاصر.
وفي مقال افتتاحي مدوّ، اتهمت الصحيفة العريقة الولايات المتحدة وأوروبا، بالتواطؤ المتزايد مع إسرائيل، والتي جعلت من غزة مكاناً "غير صالح للحياة"، في إشارة مبطنة إلى جريمة الإبادة الجماعية، وألمحت إلى أن الهدف النهائي، هو "تهجير الفلسطينيين قسراً من أرضهم"، في إشارة واضحة إلى التطهير العرقي الممنهج.
وبالتزامن مع هذا التحول، أعلنت صحيفة الإندبندنت البريطانية أن "الصمت الرهيب المفروض على غزة" يجب أن ينكسر، وأنه قد آن الأوان للعالم أجمع، أن يستيقظ وينتبه لما يحدث من فظائع، وأن يطالب بإنهاء المعاناة الإنسانية للفلسطينيين المحاصرين في القطاع المأساوي.
وفي مقال تحليلي نشرته ميدل إيست آي، طرح الكاتب جوناثان كوك سؤالاً بالغ الأهمية، يمثل مفتاحاً لولوج العقلية الغربية المظلمة، وفهم كيف يفكر الغرب إزاء الانتهاكات الصارخة، والمذابح المروعة وسياسات التجويع الجماعي التي لا ترحم، واختبار لمدى صدق ادعائه، بأنه المرجع الأخلاقي الأوحد والحصري في العالم.
تساءل كوك بمرارة: ".. ولكن لماذا انتظر حلفاء إسرائيل الغربيون- وكذلك كبريات وسائل الإعلام مثل الغارديان وفايننشال تايمز- تسعة عشر شهراً كاملاً للتحدث علناً ضد هذا الرعب الذي لا يوصف؟".
ويضيف كوك قائلاً: إن أجزاء كبيرة من وسائل الإعلام، والنخب السياسية الحاكمة باتت تعلم جيداً، أن الموت الجماعي الذي يحدث في غزة، لم يعد من الممكن إخفاؤه والتستر عليه لفترة أطول، حتى بعد أن منعت إسرائيل بشكل تعسفي، الصحفيين الأجانب من دخول القطاع، وقتلت بوحشية معظم الصحفيين الفلسطينيين الشجعان، الذين حاولوا بكل ما أوتوا من قوة تسجيل وتوثيق جريمة الإبادة الجماعية.
ويحاول اللاعبون السياسيون والإعلاميون المترددون، تقديم الأعذار الواهية قبل فوات الأوان، في محاولة يائسة لإظهار الندم الزائف والتملص من المسؤولية.
ويقول: "وحتى يومنا هذا، تتواطأ بعض وسائل الإعلام الغربية، في الترويج لفكرة زائفة مفادها أن غزة منطقة خالية من الاحتلال الإسرائيلي، من خلال تصوير المذبحة المروعة التي تحدث هناك – وتجويع السكان المدنيين الأبرياء – على أنها مجرد "حرب" بين طرفين متنازعين.
وفي الثلث الأخير من شهر يوليو/ تموز من العام 2025، كتب ماثيو صايد، في صحيفة الغارديان، مشيراً بأسف إلى ما وصفه بـ "المبررات" التي تساق لتبرير المذبحة المستمرة، معتمداً في ذلك على نظرية نسبية الأخلاق المشبوهة، وهي واحدة من أسوأ النظريات الغربية على الإطلاق، والتي قدمت للرجل الأبيض/السوبر "السند الأخلاقي" لاستباحة حقوق المستضعفين في العالم، بضمير بارد كالثلج، أو صلب كالصخر.
ومن بين المبررات الزائفة التي ساقها صايد، أن تفريغ غزة من سكانها عن طريق قتل ما يقارب 60 ألف شخص، وتدمير ما يزيد عن 92 في المئة من المباني والبنى التحتية، وتجويع السكان المدنيين هو – من وجهة نظر إسرائيل – إجراء ضروري من أجل دحر حركة حماس.
وتُذكّر تل أبيب الغرب بـ "مبرراته الأخلاقية" التي ساقتها خلال الحرب العالمية الثانية، بالقول: "لقد أرغمتم النازية على الاستسلام من خلال قتلكم آلاف المدنيين الألمان الأبرياء. وعلينا أن نفعل الشيء نفسه تماماً في غزة".
والحقيقة المؤلمة هي أنه لا يمكن فصل نتاج الغرب العلمي والفلسفي، عن تشكيل نظرته المتجذرة للعالم. هذا النتاج، حتى لو كان نظرياً محضا، يحتمل الصواب والخطأ على حد سواء، يجري تدويره بشكل ممنهج داخل ماكينات إعادة صوغ الرأي العام، وتحويله – بمرور الوقت وتراكم الضغوط بالإلحاح الناعم – ليصبح جزءاً لا يتجزأ من ثوابت عقيدته السياسية، وهي أخطر ثمرات التدوير الفلسفي والعلمي في الغرب.
ويحتل كتاب داروين (1809ـ1882) الشهير "أصل الأنواع"، والذي ظهر في العام 1859، مكانة مرموقة ربما تكون أكثر قداسة وتبجيلاً عند جماعات المصالح "اللوبي" المتنفذة في العالم الغربي المسيحي، من الكتاب المقدس ذاته!
فالولايات المتحدة الأميركية "الرسمية"، ترفض بشكل قاطع أي نظرية علمية من شأنها أن تنتهك حرمة "النشوء والارتقاء"، كما وضعها داروين، وكان من بين هذه الرفوض إجهاض طلب تدريس نظرية "التصميم الذكي" جنباً إلى جنب مع نظرية "أصل الأنواع" في المدارس الأميركية، ولو من باب "حرية التعبير" المكفولة دستورياً!
وفي العام 2004 صادرت فرنسا العلمانية المتشددة، كتاب "أطلس الخلق"، الذي يهدف إلى تفكيك نظرية داروين. ودول الاتحاد الأوروبي بشكل عام تفرض حماية صارمة على هذه النظرية، ولا تقبل المساس بمضمونها أو التشكيك في صحتها ومصداقيتها!
وكان من الغريب والمدهش إلى حد بعيد، أن يتشدد الغرب المسيحي "الرسمي" إلى هذا الحد في التمسك بالتفسير الحرفي لنظرية الداروينية، على الرغم من أنها لا تزال حبيسة حدود "النظرية" التي لم ترتق بعد إلى درجة "الحقيقة" العلمية القاطعة!
إن هدم هذه النظرية بالكامل، يعني في واقع الأمر تقويض الأساس الأخلاقي والتسويغ "العلمي" الذي قامت عليه الحضارة الغربية الحديثة، سواء على صعيد تطورها وحراكها الداخلي، أو على صعيد نظرتها وفهمها للعالم من حولها.
فالنظرية الداروينية هي التي سوّغت ضمنياً "تميز" العنصر الغربي، واستعلاءَه المزعوم على الآخرين على أساس أنه الأفضل والأجدر بالبقاء، ووفرت له الغطاء الأخلاقي المزيف، لاستعمار مناطق شاسعة من العالم، واستنزاف موارده الطبيعية، على أساس أن القانون الحاكم المطلق للعالم، يقوم على مبدأ "الانتقاء الطبيعي": الفرز الطبقي والاجتماعي والعرقي والسلالي، وأن الطبيعة تتجه حتماً نحو تنظيف المجتمع من الفقراء والضعفاء والمرضى والعاجزين وتخليص العالم منهم، لإيجاد مكان رحب للأقوياء والقادرين فقط.
وعندما اُتهم الزعيم التاريخي البريطاني الشهير ونستون تشرشل، بأنه ارتكب مجازر مروعة في حق الهنود الحمر في أميركا الشمالية، وفي حق السكان السود الأصليين في أستراليا، رد بصلف وغطرسة قائلاً: إن "عرقاً أقوى، وعرقاً أرقى، وعرقاً أكثر حكمة" قد "حلّ محلّهم" بكل بساطة.
وفي كتابه "العادات الشعبية" الذي صدر في العام 1906، أصّل عالم الأنثروبولوجيا الأميركي ويليام غراهام سومنر، لنظرية ما يسمى "نسبية الأخلاق" المثيرة للجدل، والتي ترى أن الناس يختلفون اختلافاً كبيراً حول القضايا الأخلاقية، وأن مصطلحات مثل: "جيد" و "سيئ" و "صحيح" و "خاطئ" لا تخضع لشروط الحقيقة العالمية إطلاقاً؛ وأن ما يعتبره الناس صواباً أو خطأ يتشكل كلياً – وليس بشكل أساسي – من خلال التقاليد والعادات والممارسات الثقافية السائدة في مجتمعاتهم. ويؤكد عالم الأنثروبولوجيا الشهير، روث بنديكت (1887-1948)، أنه لا وجود للأخلاق المتعالية والثابتة، وإنما توجد فقط العادات الاجتماعية المتغيرة.
ويعزو بعض المثقفين الكاثوليك والعلمانيين على حد سواء، الانحطاط الأخلاقي الملحوظ الذي شهدته أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلى إزاحة القيم المطلقة الثابتة من قبل النسبية الأخلاقية المتطرفة.
وقد جادل كل من البابا بنديكتوس السادس عشر، ومارسيلو بيرا وعدد كبير من المفكرين الآخرين، بأنه بعد العام 1960 تقريباً، تخلى الأوروبيون بشكل كبير عن العديد من المعايير التقليدية الراسخة التي كانت متجذرة في المسيحية، واستبدلوها بقواعد أخلاقية نسبية متطورة باستمرار، وغير ثابتة.
فالغرب في مجمله – بما في ذلك امتداده الأميركي – يتعامل مع المجازر المروعة التي ترتكب في غزة باستبطان عميق لهاتين النظريتين المثيرتين للجدل: الداروينية السياسية والاجتماعية من جهة، ونسبية الأخلاق من جهة أخرى.
وهي عقيدة استعلاء وعنصرية بغيضة، ممتدة وتنتقل من جيل إلى جيل، حيث يعلمون أطفالهم في المدارس والجامعات "منهج عبادة القوة" المطلقة.